أن تُرزق بطفل فهذه نعمة كبيرة لم يحظ بها كثير من الناس؛ وأن يكون لك بيت أيضًا نعمة تستوجب الشكر؛ وأن يكون هناك رب لأسرتك، فحتمًا أنت محظوظ؛ أما إن كنت غير مدين ولا تعاني مرضًا أو تخشى سجنًا، فبكل تأكيد أنت من أسعد البشر في مصر المحروسة.
أم سمر.. سيدة مصرية صابرة ومكافحة؛ لا تعرف غير الحلال سبيلًا لقوتها وأسرتها؛ تزوجت فكانت ثمرة أول حمل "سمر" طفلة تعاني ضمورًا في المخ وشلل نصفي بسبب خطأ طبي؛ فشكرت نعمة الله، عوضها الخالق بابنتين أخريين فشكرت أيضا، ولكن كان الموت مثل الرياح العاصفة التي تركتها وبناتها في العراء؛ فقدت زوجها فشكرت ورضيت بقضاء الله؛ وأكملت رحلة الرضا والكفاح إلى أن أرهقها المرض فوق معاناتها في رعاية طفلتها "سمر" التي ستظل إلى أن تلاقي ربها مريضة؛ أيضا لم ترحمها الأيام إذ أنها تواجه خطر السجن في أي لحظة.. إليكم القصة.
• صدمة.. ثم رضا وكفاح
"أنا راضية بقضاء ربنا والحمد لله على اللي يجيبه ربنا".. بهذه الكلمات بدأت والدة "سمر" تحكي قصتها بعد أن شاهدتها في إحدى محطات مترو الأنفاق؛ كانت السيدة قادمة من مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية متوجهة نحو مستشفى عين شمس وهي تحمل جسد طفلتها التي بلغت 23 عاما.
تروي الأم بداية المأساة: كنت حامل ورحت أولد في مستشفى الدمرداش- "كانت تقيم وقتها في مدينة عين شمس"؛ قبل 23 سنة؛ أخبرها الأطباء بأن الجنين ليس في وضعية الولادة ويجب أن تتناول بعض الأدوية وتأخذ بعض الحقن لتعديل وضع الجنين؛ وما أن دخلت غرفة العمليات وجه دكتور التخدير لها عدة أسئلة؛ جاوبت الأم؛ لكنها رأت بعينها في المرآة أقدام الجنين تتدلى من رحمها؛ وكان آخر ما سمعته سؤالا وجهه طبيب العمليات لدكتور التخدير قائلا: "أنت اديتها حقنة التخدير".. فأجابه: أه.. فرد مستاءً: ليه كده؟.. ولم تسمع السيدة أي كلمة أخرى لأنها قد وقعت تحت تأثير التخدير ولم تر أو تسمع أو تشعر بأي شيء.
وبعد انتهاء مفعول التخدير بدأت السيدة تستعيد وعيها والتفتت يمينا ويسارا فوجدت المحيطين بها يتناولون وجبة الإفطار لأنها كانت في أحد أيام شهر رمضان المعظم؛ فحدثتها عمتها التي كانت مرافقة لها بكلمات: حمدا لله على سلامتك.. أنتي ولدتي بنت حلوة وقومتي بالسلامة، فقاطعتها السيدة: أمال فين بنتي؟.. ردت عمتها: أخدوها الحضّانة، ظنت الأم أن الأمر يتعلق بالرعاية الخاصة لصغيرتها مثل التنفس والأكسجين، أي أن الأمر سيكون بسيطا؛ ولكن الحقيقة أن رحم السيدة لم يكن في وضع الولادة الطبيعية بعد خروج الجسد؛ وحصل انقباض على رأس المولودة الصغيرة فصارت الرأس داخل بطن الأم والجسد خارجها؛ ما تسبب في إصابة الرضيعة بضمور في المخ ما استدعى نقلها إلى الحضّانة التي مكثت فيها شهرا.
وعلى مدار الشهر كانت الأم تذهب يوميا لابنتها حاملة معها مستلزمات حديثي الولادة مثل الحفاضات وعبوات الألبان؛ وبعد انقضاء ثلاثون يوما ذهبت الأم لتتسلم فلذة كبدها فصعقها الطبيب قائلا: هيبقى عندها إعاقة؛ حاولت الأم أن تتمالك نفسها وسألته: إعاقة في إيه؟.. ولكن الطبيب لم يرد عليها أو يرفق بقلبها، غادرت الأم إلى منزلها شاردة بين الرضا بقضاء خالقها؛ وبين تخوفها من المعاناة التي ستواجهها طفلتها؛ لم تيأس وقررت أن تبدأ رحلة المستحيل كي تُشفى ابنتها؛ ترددت على الأطباء في القاهرة؛ فطلب منها أحدهم كما يفعل كل أطباء المحروسة تحاليل وأشعة على المخ؛ إلى أن أخبرها أطباء مستشفى عين شمس بأن صغيرتها تعاني ضمورا في المخ؛ وليت الأمر توقف عند هذا الحد.
مرت الأيام ثقيلة على الأم التي استيأست من علاج ابنتها؛ كانت الأم تحاول تعليم صغيرتها الجلوس بمحاولات عدة؛ ورغم محاولات المساعدة التي اجتهدت فيها السيدة لم تكن هناك أية نتيجة إيجابية؛ حولها أطباء مستشفى عين شمس إلى المستشفى الجامعي في مدينة الزقازيق ومعها تشخيص بحالة الرضيعة "مصابة بضمور في المخل وشلل نصفي"؛ لم تكن السيدة تقرأ أو تكتب وبالتالي لم تكن تعلم ذلك إلى أن كانت المصيبة التالية التي فجعتها وهي أن الصغيرة مصابة بشلل نصفي عندما أخبرها الدكتور سعد سليمان في مستشفى الزقايق بذلك.
•صدمة جديدة.. وفاة الأب
لم ينمو جسد سمر؛ ولم تستجب للمشي؛ مرت الأيام ولكن هذه السيدة التي أهداها القدر طفلتين دنيا وسحر؛ ما فتئت تتنفس الصعداء إلا وفاجئها الموت بتغييب زوجها وعمر آخر بناتها 6 أشهر فقط؛ منذ 16 سنة كشفت الحياة عن وجهها القبيح للأم؛ لا مفر من الكبد والشقاء؛ فلم تستفق من صدمة أولى بناتها التي تعرضت لإعاقة بسبب خطأ طبي؛ حتى فارقها الزوج أبديا؛ كيف ستنفق على نفسها وبناتها الثلاثة؟.
طرقت الأم الكادحة أبواب الرزق بالحلال؛ عملت في المنازل؛ مسحت سلالم العمارات؛ باعت في كافيتيريا الزراعة؛ غسيل سجاد؛ تنظيف شقق؛ تنظيف عيادات خاصة؛ صنفرة في ورش دهان سيارات؛ وأعمال أخرى كثيرة على مدار خمس سنوات لم يهتز صبرها وإن كان الكبرياء قد تعرض لهزات كثيرة ولكن كل معاناة هينة في سبيل إطعام بناتها بكد وعرق وكفاح.
أخبرتها إحدى السيدات بأنها سوف تساهم معها في مشروع للأيتام؛ وكان عبارة عن تصنيع منظفات منزلية؛ لم تتردد للحظة لكن الرزق لم يأتها من هذا الباب؛ تركته وعملت في محل طيور "فرارجي"؛ استمر كفاحها حتى ألحقت بنتيها بالمدرسة؛ وبعد فترة ضاق رزقها فقررت أن تبيع الخضروات في الأسواق؛ تستيقظ قبل شروق الشمس وتتحرك في كل الاتجاهات بحثا عن الكسب الحلال؛ فكانت تبيع في السوق صباحا؛ وتذهب لتنظيف منزل هنا أو غيره كعمل ثان لزيادة الرزق.
•سمر.. ملاك افترسها المرض
عندما حاولنا أن نحدث سمر؛ جسد الطفلة وعمر الفتاة؛ حيث أنها الآن صارت تبلغ من العمر 23 عاما ولكن جسدها لطفلة لم تتجاوز عشر سنوات؛ وجدنا إيمانا رهيبا؛ ومع كل جملة تقول دائما: الحمد لله.. الحمد لله؛ تقول سمر: "نفسي نسدد ديون ماما وأروح أحج"؛ أخبرتنا أيضا أنها كانت تصوم ما تيسر لها من شهر رمضان؛ وتصلي أيضا رغم إعاقتها؛ صوت رقيق ووجه ملائكي لكن المرض لم يتركها تنعم بحياتها مثل أقرانها؛ ليس هذا فحسب؛ بل جعلها عرضة لأن تواجه مصيرها وحيدة إذا سُجنت والدتها؛ كيف ستتولى سمر أمر نفسها وهي التي تستخدم حفاضات لقضاء حاجاتها منذ 23 سنة وحتى الآن؟!.
•المساعد ربنا
في يوم ما حدثها بعض المتطوعين في إحدى الجمعيات الخيرية وأخبرتهم بقصتها؛ فأخذوها إلى مقر الجمعية في مدينة الزقازيق وانتظموا شهريا بإرسال بعض اللحوم أو الدجاج كطعام لها وأسرتها؛ وتعهدت جمعية أخرى في الزقازيق أيضا ببعض المستلزمات الطبية لـ"سمر" كنوع من تخفيف أعباء النفقات عن الأم؛ خاصة وأنها لا تستطيع المتابعة المستمرة بين مستشفى عين شمس في القاهرة بشكل منتظم لأن ازدياد مصروفات السفر فضلا عن مرض الأم بـ"الكلى" و"فيرس سي" و"المرارة".
أنهكها المرض فلم تقدر على اكتساب قوتها وأولادها؛ لم تعد الأم تعمل؛ زوجت الأم إحدى بناتها؛ وتقدم عريس لخطبة الأخرى فلم تستطع الرفض؛ لكنها اقترضت 13 ألف جنيه لتجهيزها؛ ثم انتظمت في السداد لفترة ولم تعد قادرة على الالتزام بباقي الدين؛ تلقت المساعدات وكانت محدودة جدا؛ بالكاد تكفي جزءا من نفقات سمر المريضة؛ عادت للمنظفات مجددا ولكن هيهات فلم تكن حصيلة البيع بالإضافة إلى ما يسمى "معاش المعاقين" وهو 323 جنيها مصريا لا غير تكفي أصلا لطعام الأسرة ونفقات سمر الطبية وأدوية الأم؛ فضلا عن توقف أغلب المساعدات من الأسر المحيطة بها؛ فاستمر التخلف عن سداد القرض لمدة سنة؛ رفع البنك قضية عليها؛ صدر عليها حكما بالحبس.. استأنفت الأم وعارضت؛ لكنها ألقيت داخل جدارن السجن 6 أيام؛ وسمر وشقيقتها لا تتلقيان أي رعاية.
•نهاية رحلة العذاب.. السجن!
يتبقى للأم محاولة يائسة ويصدر حكما نهائيا بحبسها إن لم تسدد ما اقترضته لتجهيز ابنتها بالزواج؛ ترتعد الأم خوفا من كل طرقة على بابها؛ تخشى أن يأتي إليها منفذو الأحكام ويقتادونها إلى السجن مجددا؛ وهذه المرة لن تكون أياما معدودات بل سنوات طويلة؛ وعندئذ لن تجد الشقيقتان أي رعاية أو حماية لأن الأم التي خاضت 23 عاما في الكفاح والصبر ستكون خلف أسوار السجن مع الخارجات على القانون؛ فكيف تتساوى من ثابرت وكافحت على مدار ما يقرب من ربع قرن مع أخرى سرقت أو قتلت أو قبض عليها في جريمة مخلة بالشرف.
هذه السيدة تعاني إهمالا بشعا من الأهل والأقارب وعلى حد قولها: "مفيش حد غير ربنا هو اللي بيسأل علينا وبيرعانا"؛ تناشد كل إنسان حر ليس لأجلها بل لأجل ابنتيها أن يساهموا بسداد قرضها الذي أجبرها عليه عرف مجتمعي سبب كارثة في مصر؛ كارثة تدخل فيها شخصيا السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما أصدر أمرا بضرورة إنهاء أزمة الغارمات؛ أيضا يناقش مجلس النواب حاليا مشروع قانون ولكن متى سيتم إقراره؟.
هذه المرأة خاضت رحلة عذاب طويلة؛ سعت وكافحت وكدت في سبيل الستر والحلال؛ لم يخذلها الله على حد قولها؛ لكن هناك من خلق الله من لا يرحم؛ لذا فهي تتوجه بنداء لكل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير أن يساهم في حل أزمتها الخانقة؛ وإنهاء كابوسها المرعب الذي حول حياتها لمطاردة موحشة؛ تريد أن تنقشع عنها غمة القرض وتسدده؛ وأن يساهم أرباب الخير معها بمشروع تقتات منها وبنتها؛ تتضرع الأم باكية إلى الله بأن يكتب لها قسطا من الراحة بعد هذا العناء الذي سحق نصف عمرها تقريبا؛ وكلها يقين أن الله لن يخذلها مجددا.
مصدر الخبر
هل تمثل المصادر المستخدمة بالمحتوى جهة واحدة من الرأي أم تعرض الرأي الآخر؟
هل المصادر المستخدمة حديثة ومناسبة لسياق الموضوع؟
حديثة ومناسبة
هل أشار المحرر إلى المصدر في حالة النقل أو الاقتباس؟
أشار المحرر إلى المصدر في حالة النقل أو الاقتباس
هل فصل المحرر بين تعليقه والمحتوى الخبري المقدم للقارئ؟
خلط بين الرأي والمحتوى
دمجه في صياغة المحتوى
هل نسب المحرر الصور إلى مصادرها؟
نسب الصور لمصدرها
هل هناك أي تعميم في المحتوى؟
المحتوى خالي من التعميم
هل هناك أي إهانة /أو تشويه /أو تشهير لفرد أو مجموعة ضمن المحتوى؟
المحتوى خال من أي (إهانة /أو تشويه /أو تشهير) بحق فرد أو مجموعة
هل هناك انتهاك لخصوصية الأفراد ضمن المحتوى؟
ليس هناك أي انتهاك لخصوصية الأفراد
هل هناك خطاب كراهية ضمن المحتوى؟
المحتوى خال من خطاب كراهية
هل هناك تمييز /أو تنميط ضد أفراد أو مجموعات ضمن المحتوى؟
ليس هناك أي تمييز /أو تنميط ضمن المحتوى